سعيد حميد الهطالي
على مرأى ومسمع العالم، غزة تستغيث، تموت جوعًا بعد أن حُوصرت برًّا وبحرًا وجوًا، وانقطعت عنها سبل الحياة، وتكالب عليها الجوع والخوف والخذلان، لم تعد مشاهد الهزال والدموع والدماء تحرك ضميرًا، ولا صرخات الأطفال توقظ إنسانية نائمة، ولا الوجوه الشاحبة تثير شفقة، ولا الأكف الممدودة تستدر رحمة، ولا الجثث المتناثرة تزعج نوم العالم المترف!
تباد غزة تحت سمع العالم وبصره، تقصف ليلًا ونهارًا، وتهدم بيوتها على ساكنيها، ويحاصر ما تبقى من أهلها بالجوع تارة، وبالخوف والخدلان تارات!
في غزة الموت يأتي من كل مكان، يتسلل من كل زاوية، من نقص الغذاء، وانقطاع الماء، وانعدام الدواء، من القنابل، والصمت.. وكل ما في العالم من مؤسسات حقوقية، ومنظمات إنسانية يقف عاجزًا أو متواطئًا أو ساكتًا، وكأن غزة ليست على خريطة الإنسانية!
أين الضمير العالمي؟ أين صناع القرار الذين يدعون الدفاع عن القيم وحقوق الإنسان؟ كيف تستباح غزة على هذا النحو دون رادع؟ كيف تترك وحدها تواجه القصف والإبادة والجوع والتشريد، والعالم بأسره يكتفي بالمشاهدة أو الإدانة الخجولة؟
إن ما يحدث في غزة ليس مأساة عابرة، هي جريمة ممتدة ترتكب بحقد أسود، وتبارك بصمت، وإن السكوت على هذه الإبادة الإجرامية هو مشاركة في الجريمة والتغاضي عن هذا الحصار، ووقف العدوان، ومد العون لمن لم يبقَ لهم سوى الله، وبعض القلوب الحيّة.
غزة لا تريد من العالم دموعًا، إنما ضمائر حية تنهض، وصوتًا يرتفع، ويدًا تمتد، وحصارًا يكسر، وعدلًا ينتصر له.
يموت الناس في عزة وهم واقفون، يقصفون وهم ينتظرون الغذاء، ويتفاجؤون بالقنابل، الطفل في غزة لم يعد يحلم بحلوى أو لعبة، بل برغيف خبز، وبقليل من الحليب، وبوجبة تسد رمقه، ليس ترفًا، بل لتُبقيه على قيد الألم!
في غزة، المرأة الحامل تتوجس من ولادة جديدة، فكيف تتطعم فمًا آخر، وهي بالكاد تسكت جوع فمها؟ في غزة لا يطلب الناس سوى شربة ماء نظيفة، أو دواء لمرض أو موت بلا ألم!
الطوابير في غزة لم تعد فقط للحصول على مساعدات إنسانية، إنما طوابير للنجاة، فحين يتحول الخبز إلى عملة نادرة، والماء إلى سلعة مفقودة، والدواء إلى ترف فإننا نتحدث عن "أزمة إنسانية " كما يقولون في بياناتهم الباردة، بل عن كارثة إبادة ناعمة تفتك بالبشر على مهل لتبيد كل من على تلك البقعة من الأرض المباركة.
لقد تحول الجوع في غزة إلى قصة خرساء لا أحد يريد أن يسمعها، تحولت الأجساد الهزيلة إلى أرقام في تقارير الإغاثة، والآهات إلى ضجيج مزعج على طاولات المؤتمرات، كل شيء في غزة يصرخ "أين أنتم"؟ لكن لا أحد يجيب!
غزة لا تموت جوعًا فقط، لكنها تموت قهرًا، تموت من خذلان الأقرباء قبل الأعداء، تموت من انكسار الضمير العربي، من تهرب المسؤولية، من عجز العالم الإسلامي، ومن موت النخوة العالمية.
هذه ليست دعوة للعطف، ولا بكاء على الأطلال، إنما نداء صارخ للعالم أن أنقذوا ما تبقى من غزة، أنقذوا الأطفال من موت لا يليق ببراءتهم، وأنقذوا النساء من أمهات يلدن في الجوع، وأنقذوا كبار السن من قبورهم التي تنتظرهم.
غزة اليوم ليس بحاجة إلى وعود، هي بحاجة إلى مبادرة، إلى فعل، إلى شجاعة، ليست بحاجة إلى مبادرات جوفاء وضعيفة، بحاجة إلى كسر الحصار، وفتح المعابر، إلى تقديم الغذاء والدواء قبل أن تتحول شوارعها إلى مقابر جماعية لضحايا الصمت المخزي!